فاروق جويدة يكتب: قراءة فى معركة لم تنته بعد

يبدو أن الحرب التى تدور الأن بين روسيا وأوكرانيا لن تنتهى قريبا، رغم أنها توشك على أن تأخذ شهرا كاملا وربما أكثر.. ورغم التفاوت الشديد فى قدرات البلدين العسكرية والبشرية والاقتصادية فإن روسيا الدولة العظمى واجهت مقاومة شرسة من الشعب الأوكرانى بقدراته المحدودة..

ــــ والواضح أن الدعم العسكرى الأمريكى والأوروبى كان سببا فى صمود أوكرانيا حتى الأن، وإن كان من الصعب التنبؤ بنتائج المعركة، خاصة أن الرئيس بوتين لن يقبل الهزيمة مهما كان الثمن.. وعلى الجانب الأوكرانى فهو لن يقدر على تحمل الخسائر أكثر من ذلك وليس أمام أوكرانيا الأن غير أن تخضع لمطالب الرئيس الروسى.. خاصة أن كل المنشآت فى المدن الكبرى دمرتها الصواريخ الروسية..

ومن هنا نحن أمام مجموعة من الحقائق:

ــــ أولاً: إن الاتحاد الأوروبى قد تخلى عن أوكرانيا وتركها تواجه مصيرها المؤلم، فى وقت تصورت فيه أن حلف شمال الأطلسى سوف يرسل حشوده لمواجهة روسيا على الأراضى الأوكرانية.. وان أمريكا لن تترك الرجل الذى شجعته على أن يواجه روسيا وقد دفع الثمن ودمر وطنه بالكامل وشرد الملايين من أبناء شعبه..

ــــ ثانيا: رغم كل ما قدمت أمريكا من الأسلحة الحديثة لأوكرانيا فإن السلاح الروسى الحديث أيضا كانت قدراته أعلى، خاصة منظومة الصواريخ الأسرع من الصوت، كما أن الدعم المالى الذى قدمه الاتحاد الأوروبى مع أمريكا لم يحسم المعارك أمام الحشود العسكرية الروسية.. ومن هنا فإن أوكرانيا دخلت فى مغامرة غير محسوبة كلفتها تدمير وطن بالكامل..

ــــ ثالثا: كان واضحا أن أوكرانيا تبدو دولة من دول العالم الثالث فى مبانيها ومنشآتها وشوارعها أمام الاجتياح الروسى وليست فى فخامة المدن الأوروبية العريقة وسوف تحتاج زمنا طويلا وأموالاً ضخمة حتى تعيد بناء المدن التى خلفتها الحرب ولا اعتقد أن دول الاتحاد الأوروبى تستطيع أن تتحمل فاتورة الخراب الذى لحق بالشعب الأوكرانى ..

ــــ رابعا: إن أوروبا القارة العجوز لن تنجو من آثار هذه الحرب اقتصاديا وإنسانيا وهى لا تستطيع أن تتحمل ذلك أمام الأعباء الضخمة وارتفاع الأسعار، خاصة البترول والغاز والطعام.. إن الخسائر التى لحقت بأوكرانيا سوف تترك آثارها على المواطن الأوروبى مهما تكن قدراته الاقتصادية..

ــــ خامسا: إن الملايين من الهاربين من الموت إلى دول أوروبا يمثلون عبئا رهيبا على هذه الدول وإذا كان البعض قد رحب بهم فى البداية فإن الأعداد الضخمة منهم يمثلون عبئا إنسانيا واقتصاديا، إنهم يحتاجون سكنا وأعمالا وعلاجا وتعليما ورعاية، وهذا يمثل ضغطا على ميزانيات هذه الدول وهى تعانى ظروفاً اقتصادية صعبة..

ــــ سادسا: إن العقوبات التى فرضتها أمريكا ودول الاتحاد الأوروبى على روسيا لن تتوقف آثارها على الاقتصاد الروسى ولكنها سوف تمتد إلى أوروبا وأمريكا، بل إنها لن تترك دولة فى العالم.. إن أسعار الغاز والبترول التى مازالت روسيا أهم مصادرهما لن تتراجع كما أن القمح الروسى والأوكرانى مصدر الطعام فى كثير من دول العالم لم يعد متاحا فى ظل العقوبات.. وقبل هذا فإن الاقتصاد الأمريكى لا يملك فى هذه الظروف الإمكانات التى يقدمها لدول أوروبا.. إن العقوبات التى فرضتها أمريكا على روسيا لن تقتصر آثارها على الاقتصاد الروسى ولكنها سوف تشمل الجميع.. إن العالم قد اكتشف حجم الاقتصاد الروسى فى هذه العقوبات فى الغاز والبترول والقمح وأنواع مختلفة من الصناعات وأرصدة روسيا من الذهب والعملات الصعبة.. بجانب هذا التداخل الشديد بين الاقتصاد الروسى واقتصاديات أوروبا فى كل المجالات، ولهذا فان آثار العقوبات على روسيا لم تظهر بعد وإن كان الاقتصاد الأوروبى سوف يتحمل جزءا كبيرا من آثارها..

ــــ سابعا: لا شك أن الحرب الروسية ــ الأوكرانية قد قسمت العالم مرة أخرى بين مؤيدين لروسيا ومؤيدين لأمريكا، فى حين أن دول أوروبا اختلفت مواقفها لاختلاف مصالحها.. إن دولا مثل ألمانيا وفرنسا وايطإلىا لا يمكن لها الاستغناء عن الغاز الروسى وهى لا تملك البدائل، كما أن القمح الروسى يمثل أهمية خاصة وكثير من المعدات تنتجها روسيا لحساب مصانع وشركات أوروبية.. إن هذا التداخل الشديد وضع أوروبا فى ظروف صعبة ربما تظهر آثارها بعد أن تهدأ المعارك ويسكت الرصاص.. وقد عادت أشباح الماضى تطل فى ذكريات بغيضة مازالت فى خيال شعوب دفعت ثمنا غإلىا للحروب..

ــــ ثامنا: كانت الحرب الروسية ـ الأوكرانية أول اختبار لما حدث من تطور فى صناعة السلاح واثر التكنولوجيا الحديثة، خاصة بين روسيا وأمريكا وقد اتضح ذلك فى إنتاج الصواريخ المتقدمة من مختلف الأحجام والمسافات.. ويبدو أن الحرب كانت فرصة لاختبار ما توصلت إلىه الدول بما فى ذلك انجلترا وفرنسا.. لقد عاد سباق التسلح يطل على العالم مرة أخرى ويذكرنا بالحرب الباردة وصراع القوى النووية فى العالم..

ــــ تاسعا: إن العالم، كل العالم، سوف يدفع ثمن هذه الحرب ولا احد يعلم متى تنتهى وما هى توابعها.. وهل يمكن أن تمتد إلى دول أخرى؟ وما هو مستقبل العالم إذا امتدت النيران إلى أوروبا لتعيد لشعوبها ذكريات إلىمة فى الحرب العالمية الثانية؟.. وهناك آراء كثيرة تؤكد أن تطور المعارك يمكن أن يقود العالم إلى مواجهة بين روسيا والاتحاد الأوروبى وأمريكا، بحيث تستخدم فيها الأسلحة الحديثة وهى ليست أقل خطرا من الصراع النووى..

ــــ عاشرا: تبقى بعد ذلك الصين وهى حائرة بين حسابات مع أمريكا وأوروبا من جانب ومصالحها مع روسيا.. إنها تريد أن تلعب لحسابها، ولهذا هى تريد إنكسار أمريكا، ولكنها لا تتمنى انتصار بوتين حتى لا تعود روسيا إلى صدارة المشهد.. كما أن الصين تعلم أن المواجهة قادمة مع أوروبا وأمريكا ولكنها لن تكون تابعة لروسيا وسوف تختار الموعد والزمان..

ــــ إن النيران مازالت مشتعلة والرصاص يدور والطائرات تدمر كل شيء ومن الصعب أن يقال إن روسيا قد انتصرت ولكنها استطاعت أن تقسم أوروبا وتفرض عليها أن تعيد ترتيب أوراقها.. على جانب آخر فإن أمريكا أكبر الخاسرين، فقد تقاعست عن إنقاذ أوكرانيا وهى دولة صغيرة استنجدت بها أمام الدب الروسى، رغم انها شجعت أوكرانيا لتقوم بمهمة تتجاوز قدراتها.. أما أوروبا فقد خرجت فى حالة انقسام لا تعلم متى تخرج منها، أما الطرف الذى دفع ثمنا غإلىا فهو الشعب الأوكرانى الذى دمرت الحرب بيوته ومدارسه وجامعاته وخرج من بلاده هاربا من الموت إلى عالم فرض عليه الغربة ولا يعرف متى سيعود إلى وطنه مرة أخرى.. كانت صورة المدن والبيوت المدمرة إدانة جديدة لزمان يجيد القتل والدمار، رغم انه تغنى كثيرا بحقوق الإنسان ..

ــــ إن ما حدث يمثل إدانة للرئيس الأوكرانى وكان يستطيع أن يجنب شعبه كارثة.. ولا اعتقد انه سيخرج من هذه المعركة بطلا من أبطال التاريخ، لأن الثمن اغلى بكثير من حجم الأنجازات التى حققتها المقاومة الأوكرانية.. إن هذا من الأخطاء التاريخية التى يقع فيها بعض الرؤساء حين يخلطون المنصب بالزعامة والبطولة.. ويتصورون أنهم غيروا مسيرة التاريخ ثم يكتشفون أنهم أساءوا لشعوبهم وأن الدمار الذى تركته المعارك ودماء الأبرياء والمهجرين سوف تظل صفحة لن يتوقف التاريخ عندها.. وهذا مصير رئيس أوكرانيا الذى تجاوز طموحه إمكانات وقدرات وطن مسالم كان يتمنى أن يعيش فى أمن وسلام..

..ويبقى الشعر

يا عَاشقَ الصُّبح وجهُ الشـَّمْس ينشطِرُ

وأنجُمُ العُمْر خلفَ الأفق تنتحِــــــرُ

نهفـُو إلى الحُلم يَحْبُو فى جَوانِحِنـــــا

حَتـَّى إذا شبَّ يكـْبُو.. ثم يندثـــــــرُ

يَنـْسابُ فى العَيْن ضوءًا.. ثم نلمحُهُ

نهرا من النار فى الأعماق يسـتعـرُ

عمرٌ من الحُزْن قدْ ضَاعتْ ملامحـهُ

وشرَّدتـْهُ المنى وإلىأسُ.. والضَّجـرُ

مَازلت أمْضِى وسرْبُ العُمْر يتبعُنى

وكلـَّما أشْتدَّ حلمٌ.. عَادَ ينكســــرُ

فى الحُلم مَوتى .. مَعَ الجلادِ مقصَلتِى

وَبينَ مَوْتى وحُلمى.. ينـْزفُ العمــُرُ

إن يَحْكـم الجهلُ أرضًا كيفَ ينقذهَا

خيط من النـُّور وسْط الليل ينحسـرُ؟

لن يَطلعَ الفجرُ يومًا من حناجرنـَا

ولن يصونَ الحمى منْ بالحمَى غدرُوا

لن يكـْسرَ القيدَ مَنْ لأنتْ عزائمُــهُ

ولنْ ينالَ العُلا.. مَنْ شلــهُ الحـــــــذرُ

ذئبٌ قبيحٌ يُصلـِّى فى مَسَاجدنـَـــا

وفوْق أقـْدَاسِنـَا يزهــُـــــو.. ويفتخـــِــرُ

قدْ كانَ يَمْشى على الأشْلاءِ مُنتشيًا

وَحَوْله عُصْبة ُ الجـُــــرذان تأتــــمــــرُ

من أينَ تأتى لوجهِ القـُبْح مكـْرمــــة ٌ

وأنهرُ الملح هل يَنـْمو بها الشَّجــَـــــرُ؟

القاتلُ الوغـْدُ لا تحميهِ مسْبَحـــــــة

حتى إذا قــامَ وسْط البيتِ يعتمــــــــــرُ

كمْ جاءَ يسْعَى وفى كفيه مقصلـــة ُ

وخنـْجَــرُ الغدر فى جنبيهِ يســـتتـــــــرُ

فى صفقةِ العمْر جلادٌ وسيــِّـــــدُهُ

وأمَّة فى مزادِ المــْوتِ تنتحــــِـــــــــرُ

يَعْقــوبُ لا تبتئسْ .. فالذئـْبُ نعْرفـُه

منْ دمِّ يوسُف كل الأهْــل قدْ سكـــرُوا

أسماءُ تبْكى أمـــامَ البيـــتِ فى ألم ٍ

وابنُ الزُّبير على الأعْنــاق ِ يحتضـــرُ

أكادُ ألمحُ خلــــفَ الغيْبِ كارثــــة ً

وبحرَ دَمِّ على الأشلاءِ يَنـْهَمـــــــــــــرُ

يومًا سيحْكى هنا عَنْ أمـَّــة هلكـتْ

لم يبْق من أرْضِها زرعٌ.. ولا ثمــــرُ

حقتْ عليْهم مِنَ الرَّحْمــن لعنتـُـــهُ

فعِنـْدَما زادَهم من فضْلِه.. فجـَــــــرُوا

يا فارسَ الشِّعر قل للشِّعـر معذرة ً

لنْ يسْمَعَ الشِّعرَ منْ بالوحْى قدْ كفرًوا

واكتبْ على القبْر: هذى أمَّة رَحَلتْ

لم يبق من أهْـلها ذكرٌ.. ولا أثــــــــــرُ

قصيدة «كانت لنا أوطان» سنة 1997

زر الذهاب إلى الأعلى