د. عبد المنعم سعيد يكتب: مصر والحرب الأوكرانية

قبل أسبوعين نشرت فى هذا المقام مقالا بعنوان التحدى الكبير الثالث، وكان المقصود منه أن الأزمة الأوكرانية التى صارت حربا تمثل تحديا مماثلا لما واجهنا خلال السنوات القليلة الماضية من تحدى الإرهاب وتحدى الجائحة.

وكانت النصيحة المستمدة من التجربة أنه علينا أن نستمر فى بناء مشروعنا القومى وعناصر القوة فى مجتمعنا كما لو أنه لا توجد حرب أو أزمة أوكرانية، وأن نتعامل مع القضية الأوكرانية كما يصفها الصينيون كما لو أنه لا يوجد ما يشغلنا داخليا عنها وتبعا لمصالحنا القومية. الأمر بالطبع من التعقيد بحيث لا تكفى بساطة المعادلة للتعامل مع وضع عالمى وإقليمى نجحنا طوال السنوات الماضية فى أن نحصل منه على ما يفيد مشروعنا القومى بالحكمة والحفاظ على مسافات متعادلة مع الأطراف الدولية ذات الصلة.

ولعله مما يدعونا إلى الرضا الداخلى أن مصر حباها الله ضمن نعمه الكثيرة أنها جغرافيا لا تقع إلى جوار الدب الروسي، ولا التنين الصيني، ولا النسر الأمريكي، ولا أى من الدول العملاقة فى العالم، والتى كثيرا ما تعتبر حجمها خالقا لمعادلة ضعف وقوة ترتب أمورا عنيفة وقبولا بما لا يجب القبول به. قال لى ذات يوم سفير لكندا فى القاهرة إن قرب بلاده مع الولايات المتحدة هو مثل من كان عليه أن ينام بجوار الفيل، وعليه أن يتأكد كل يوم من صفاء مزاجه، وسلامة حالته النفسية، وذلك خشية تقلبه فى الصحو أو المنام أو ما بينهما من أحلام وكوابيس.

وهناك ما يدعو إلى حمد الله والفخر معا، أن مصر رغم ما واجهته من مصاعب وتحديات عقب “ثورة اللوتس”، فإنها الآن بعد أكثر من عقد تجاوزت ما لحقها من صعاب استدعت ثورة أخري؛ بينما كانت “الثورة البرتقالية الأوكرانية” هى المقدمة التى قادت إلى الحرب الضروس التى نشاهدها الآن حيث تنهار مدن، ويهرب السكان، ويتحولون من مواطنين إلى لاجئين.

فى هذه الحالة المصرية الكثير من البركة الإلهية والعمل الشاق والجهد الحكيم لكى نواجه التحديات المختلفة.

وفى المقال السابق ذكرت فى نهايته، ولكن هناك ورقة أخرى ربما آن الأوان أن نجربها وهو أن تكون تنميتنا إقليمية حيث الجوار القريب عامر، وفى أزمة مثل هذه ربما يكون الإقليم فى حاجة إلينا كما نحن فى حاجة إليه.

هنا يتسع السوق والموارد والقدرات فى عمومها، ومن يعلم فربما تكون لدينا فرصة لحل معضلات أزمات إقليمية طالت أزمانها كثيرا حتى يكون متاحا أمن إقليمى فى الشرق الأوسط يغنينا عن الأمن الأوروبى المستباح.

هذه الدعوة لم تكن بعيدة لا عن الجهد الداخلى فى مصر، ولا فى مسار السياسة الخارجية المصرية خلال الأعوام الأخيرة والتى قدمت أطرا تعاونية مع دول الجوار الإقليمى سواء لمحاربة الإرهاب أو التعامل مع ظروف الوباء؛ ولكنها أكثر من ذلك أضافت أطرا تعاونية جديدة دارت حول الغاز والطاقة فى عمومها من خلال “منتدى شرق البحر المتوسط”، الذى خلق واقعا إقليميا مكملا لعملية التنمية المصرية، وخالقا بيئة معززة للسلام والأمن الإقليمى فى منطقة ارتجت كثيرا بفعل ما سمى الربيع العربى وتوابعه. وكان من ثمرات هذه البيئة مبادرة الشام الجديد الذى قام على تعاون مصرى أردنى عراقي، كان واحدا من منتجاته خط الغاز العربى إلى لبنان.

وليس سرا على أحد أنه خلال العام الماضى والشهور الأولى من هذا العام، أن تغيرات كبيرة قد جرت فى المناخ الإقليمى مؤدية إلى التخفيف من حالات التوتر والمنازعات الإقليمية، حينما عادت الكثير من العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بين دول عربية وقطر، ومعها جرت حوارات كبيرة وعميقة بين مصر وتركيا، وكل من الإمارات والسعودية فى جانب وإيران وتركيا من جانب آخر.

إسرائيل خاصة بعد السلام الإبراهيمى خلقت حواراتها الخاصة مع جميع الأطراف الإقليمية، والنتيجة هى أنه بينما يشتد أوار الحرب فى أوروبا، ويدفع العالم ثمن حرب لم يشعلها، فإن الإقليم يبدو جاهزا لتفاعلات إيجابية تتعامل مع قضايا المنطقة وفى المقدمة منها قضيتا الأمن والتنمية. وفى زيارة الرئيس السيسى الأخيرة للمملكة العربية السعودية، ومن قبلها إلى دولة الإمارات العربية المتحدة فإن الكلمة المفتاح فيما نتج عن الزيارات هى التعاون فى مجالات شتى تبدأ فى استمرار مواجهة الإرهاب ولا تنتهى بخدمة أهداف الإصلاح والتنمية الجارية فى الدول الثلاث.

السؤال الآن هو كيف نترجم التعاون إلى واقع يخدم التنمية والأمن مع نضج يتفادى أخطاء المرحلة السابقة ويسعى إلى تجاوزها من خلال حوارات هادئة يمكن فيها لمراكز البحوث والجمعيات الأهلية المشاركة فى عبور مسافات آن أوان عبورها.

والمؤكد أن هذه عملية لن تكون سهلة، ولكن الواقع الإقليمى والدولى لا يعطى دول المنطقة خيارات كثيرة, وهنا فإن المؤسسات المصرية من أول وزارة الخارجية إلى وزارة البترول بما لديهما من قدرات وخبرة يمكنها النظر فى الكيفية التى تلتحم فيها التجارب المصرية السابقة فى شرق المتوسط والشام مع تجارب أخرى فى المنطقة.

الاقتراح المحدد هنا هو إنشاء منطقة للتعاون والرخاء فى شمال البحر الأحمر، حيث توجد الدفعة الهائلة لعمليات التنمية فى شمال غرب المملكة العربية السعودية، وتلك القائمة فى مصر شاملة كامل إقليم سيناء فى الشمال الشرقى لمصر ومنطقة محور قناة السويس التنموي، والممتد على جانبى البحر الأحمر فى مصر والسعودية.

وإذا كان الغاز هو رابطة شرق المتوسط، فإن السياحة والغاز أيضا والكهرباء وأنواعا كثيرة من الخدمات تشكل روابط تعتمد على دول الإقليم منتجة ومستهلكة بالقدر الذى يغنى على الأقل فى الوقت الراهن والمستقبل القريب عن انتظار الخير من الشمال.

الكاتب: رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام سابقًا – عضو مجلس الشيوخ المصري

زر الذهاب إلى الأعلى