د. توفيق المديني يكتب: زيارة بيلوسي لتايوان وتوتير العلاقات بين الصين وأمريكا

في جولتها الآسيوية الأخيرة، قامت رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي، بزيارة تايوان يوم الأربعاء 3 أغسطس 2022، استغرقت أقل من 24 ساعة، وشكلت زيارتها  استفزازًا مفضوحًا أسهم في توتير العلاقات بين بيكين وواشنطن.

ورغم أنَّ بيلوسي ليست الشخصية الأمريكية الأولى التي تزور جزيرة تايوان، التي انفصلت عن البر الصيني منذ انتصار الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ قائد الثورة القومية الديمقراطية وزعيم الحزب الشيوعي الصيني في الحرب الأهلية ضد تشين كاي تشاك قائد البرجوازية الصينية المدعوم من الغرب في عام 1949،فإنَّها تُعَدُّ أكبر شخصية سياسية أمريكية تقوم بذلك منذ 25 عامًا. وأكدت بيلوسي بحزم أنَّ “الولايات المتحدة لن تتخلى عن الجزيرة التي يحكمها نظام ديمقراطي وتعيش تحت التهديد الدائم لغزو من الجيش الصيني”.

ردود الأفعال الصينية على الى الزيارة

تُعَدُّ بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكي الشخصية المحورية في المعسكر الديمقراطي، والمقرّبة من الرئيس جو بايدن، وأسهمتْ زيارتها لتايوان في تعقيد مهمة الخارجية الأمريكية التي تجهد لعدم حصول تصعيد إضافي في العلاقات مع الصين.

وفي الأسبوع الماضي  حذَّرَ الرئيس الصيني شي بينغ، خلال اتصال هاتفي بالفيديو الرئيس الأمريكي جو بايدن من “اللعب بالنار”.

وشنت أجهزة الإعلام الصينية حَربًا إعلامية قوية ضد زيارة بيلوسي ،ففي افتتاحيتها يوم الأربعاء الماضي ، قالت صحيفة غلوبال تايمز المدعومة من الحكومة الصينية، إن بيلوسي دخلت “كاللص” إلى جزيرة تايوان، وإنها ألقت بتصرفاتها “الغبية والمتهورة والاستفزازية الخطيرة” المسؤولية الكاملة عن تقويض السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان على عاتق الولايات المتحدة وسلطات الحزب الديمقراطي التقدمي في تايبيه.وأضافت أنَّ رئيسة مجلس النواب الأمريكي مثل “إله الطاعون السياسي”، لم تقدم أيَّ خَيْرٍ للمنطقة باستثناء جلب المخاطر والتوترات إلى تايوان.

من جهتها قالت صحيفة الشعب اليومية الناطقة باسم الحزب الشيوعي الصيني، في افتتاحيتها يوم الاثنين الماضي ، إنَّ زيارة بيلوسي للجزيرة الصينية، “خلافاً لادعاءات إدارة بايدن بالبراءة، تدخل تعسفي وخطير في الشؤون الداخلية لدولة أخرى، وعلى العالم كله أن يدرك أن الولايات المتحدة في سعيها لخلق مساحة للانفصاليين، تكسر القواعد الأساسية للعلاقات الدولية، في محاولة لفتح جبهة مواجهة ثانية في آسيا، وتحويل محاولاتها لاحتواء الصين إلى حصار”، معتبرة أن ذلك سيجلب الدمار للجميع.

وسبق أن بدأ الجيش الصيني الخميس4أغسطس2022، أهم مناورات عسكرية في تاريخه حول تايوان، ردًّا على زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي للجزيرة، مثيرة توترا عسكريا بين الجانبين.

وقالت وزارة الخارجية في بكين: “في الصراع الحالي المحيط بزيارة بيلوسي إلى تايوان، فإنَّ الولايات المتحدة هي المحرّض، الصين هي الضحية. وجاء الاستفزاز المشترك من الولايات المتحدة وتايوان أولا، وجاء بعده دفاع الصين” ،حيث أطلق الجيش الصيني، مقذوفات باتجاه مضيق تايوان، الخميس ، وفق ما أكدته وسائل إعلام دولية، بعيد شروعه بمناورات عسكرية واسعة حول الجزيرة، التي تطالب بها بكين.

وعلى جزيرة بينغتان الصينية الواقعة قرب مكان المناورات، أطلق الجيش الصيني مقذوفات صغيرة قرب منشآت عسكرية، وحلق في السماء، مخلفا دخانا أبيض ودويا.

في المقابل، أكدت القوات المسلحة التايوانية الخميس، أنها “تستعد للحرب من دون السعي إلى الحرب” بينما بدأت الصين أكبر مناورات عسكرية في التاريخ حول الجزيرة، وقالت وزارة الدفاع التايوانية في بيان إن “وزارة الدفاع الوطني تؤكد أنها ستلتزم مبدأ الاستعداد للحرب من دون السعي للحرب”.

لماذا تخوض أمريكا الصراع مع الصين حول تايوان؟

إذا كانت أوكرانيا شكلت القنبلة التي باتت تهدد القارة الأوروبية، منذ تفجر الصراع بين روسيا وعموما الغرب بقيادة أمريكا في شباط/فبراير الماضي، فإنَّ تايوان تحولت إلى أهم قطعة رقعة الشطرنج، في الصراع الاستراتيجي بين الولايات المتحدة و الصين حول تشكيل النظام العالمي الجديد، وكذلك في صراع النفوذ بين بيكين وواشنطن على آسيا  و منطقة المحيط الهادي.

ويثار السؤال حول ما هي أهمية هذه الجزيرة الصغيرة، تايوان، من حيث المساحة وعدد السكان الذي لا يتعدى 23 مليون نسمة للولايات المتحدة ولماذا تصر الصين على ضمها إلى سيادتها والمغامرة بالمصالح التجارية الواسعة مع الولايات المتحدة التي تعد أكبر شريك تجاري لها.

حسب بيانات ستاتيستا، فإنَّ الولايات المتحدة تُعَدُّ أهمَّ شريكٍ تجاريٍّ للصين. وبلغت صادرات الصين للولايات المتحدة في عام 2021 نحو 577.13 مليار دولار. وفي شهر واحد فقط وهو مايو/ أيار 2022بلغ حجم التجارة بين الصين والولايات المتحدة 56.18 مليار دولار.

من الناحية الاقتصادية فإنَّ حجم الاقتصاد التايواني ليس كبيراً بمقياس الاقتصاد الصيني، في العام الماضي 2021 لا يتجاوز الرقم 760 مليار دولار، كما أن حجم تجارة تايوان مع الولايات المتحدة حسب بيانات وزارة التجارة الأمريكية بلغ 105.9 مليارات دولار في عام 2020، وبالتالي لا يمكن قياس المصالح التجارية للولايات المتحدة مع الصين مقارنة بمصالحها مع تايوان.

ووفق رأي الخبراء فإنَّ هنالك ثلاثة عوامل رئيسية تجعل من تايوان جزيرة مهمة في استراتيجية النزاع على النفوذ العالمي بين واشنطن وبكين.

أولاً: الموقع الاستراتيجي لجزيرة تايوان في بحر الصين الجنوبي كقلعة رأسمالية ذات اقتصاد متقدم يهدد النظام الشيوعي الصيني القائم على الإدارة المركزية للاقتصاد.

ثانيًا: السلاح الاستراتيجي الذي تملكه تايوان وهو سلاح صناعة الشرائح الإلكترونية المتقدمة Les semi conducteurs))التي تصنع التفوق التقني في العالم وتسيطر تايوان عليه.وتطمع الصين في تملك هذه التقنيات المتقدمة جداً وتتخوف الولايات المتحدة من الإضافة التي تصنعها هذه الصناعة البالغة الأهمية في التقدم الصناعي والعسكري الصيني عبر ضم تايوان.

ثالثًا: إنَّ قلق واشنطن  من أنَّ تَرْكَ مصير تايوان للصين ربما يرسل إشارة سلبية لحلفائها في آسيا، بأنها ستتخلى عنهم كما تخلت عن حلفائها في أفغانستان لطالبان. ولذا تتخوف واشنطن من خسارة نفوذها في آسيا وربما تكون هذه الخسارة قاصمة الظهر لطموح واشنطن في الاحتفاظ بالنظام العالمي القائم الذي تهيمن عليه، وتفتح الباب أمام الصين المتحالفة مع روسيا لبناء نظام عالمي جديد يهدد موقعها الاقتصادي والمالي.

وتعد تايوان من ناحية موقعها الاستراتيجي في بحر الصين الجنوبي ممرا بحريا رئيسيا لحركة التجارة الضخمة إلى حلفاء استراتيجيين مثل اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة.

على صعيد صناعة أشباه الموصلات التي تعد من الركائز الرئيسية للأمن القومي الأميركي وفي التفوق الاقتصادي والتقني، فإن تايوان تعد الدولة الثانية في مبيعات أشباه الموصلات بعد الولايات المتحدة.

وحسب تقرير لاتحاد صناعة أشباه الموصلات Les semi conducteurs))في الولايات المتحدة، فإن مبيعات صناعة أشباه الموصلات أو الشرائح الإلكترونية المتقدمة في تايوان بلغت 130.8 مليار دولار في العام الماضي 2021، بينما تقدر مبيعات أشباه الموصلات في أمريكا في العام الماضي أكثر من إجمالي المبيعات العالمية البالغة 555.9 مليار دولار، وفقاً لاتحاد أشباه الموصلات الأميركي. وهذا يعني ببساطة أن الولايات المتحدة وتايوان تسيطران على أكثر من 75% من إجمالي مبيعات الشرائح في العالم.

ورغم أن الصين دولة كبيرة في صناعة الشرائح الإلكترونية العادية، إلا أن تايوان تهيمن على الشرائح المتقدمة جداً التي تحدث الفرق في التقدم التقني العالمي. وبالتالي فإن الولايات المتحدة تقلق من استيلاء بكين على هذه الصناعة المتقدمة، عالية الدقة وتتحكم في نظم الاتصالات والبنوك والمعدات العسكرية، خاصة أن الولايات المتحدة هي التي صنعت من تايوان قلعة متقدمة في صناعة الشرائح الإلكترونية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ضمن أسلحة إظهار التفوق التقني الرأسمالي على النظام الشيوعي الصيني، ولذا سيكون من الصعب أن تترك واشنطن هذه القلعة التقنية للصين.

الصين تريد تعزيز موقعها في النظام العالمي الليبرالي الجديد

الإدارات الأمريكية المتعاقبة  ليست لها سياسة خارجية متماسكة إزاء الصين، على نقيض سياستها إزاء الاتحاد السوفياتي القوة العظمة الثانية في النظام الدولي  ثنائي القطبية الذي أنشأ عقب نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945،خلال زمن الحرب الباردة، حيث استرشدت واشنطن في زمن سائر الإدارات الجمهورية و الديمقراطية لا فرق هنا ، بسياسة “الاحتواء” التي صاغها الدبلوماسي الشهير جورج كانين منذ 1947 وبقيت بمنزلة  البوصلة للسياسة الأمريكية تجاه الاتحاد السوفييتي ولغاية انهياره في عام 1991 جدار برلين. وتكمن أهمية هذه السياسة الخارجية في نظر المؤرخين، في أنها ضمنت تحاشي الصدام مع الدولة العظمى الثانية آنذاك، وفي الوقت ذاته “أدت إلى أو ساهمت في انهيارها”.

أما بالنسبة إلى الصين، فقد زار الرئيس الأمريكي الراحل ريتشارد نيكسون الصين في 6 شباط/فبراير عام 1972، والتقى مع زعيمها الراحل ماو تسي تونغ، حيث كان مهندس هذه الزياره هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي الأمريكي ، الذي بلور السياسة الخارجية الأمريكية من خلال التمهيد لزيارة نيكسون بهدف إقامة علاقات مع الصين ، التي تمت في أواخر عهد كارتر عام 1979.

يشار إلى أن الصين تعتبر تايوان جزءاً من أراضيها ولم تتخلّ قطّ عن استخدام القوة لإعادتها إلى سيطرتها، وقد حذرت واشنطن مراراً من زيارتها وتعهدت باتخاذ إجراءات صارمة. وتعترف الدول الغربية الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة، بمبدأ “صين واحدة” ولا تعترف بتايوان كدولة ذات سيادة، لكن واشنطن تعارض أي محاولة من جانب بكين لتوحيد تايوان بالقوة.

العلاقة مع الصين كانت دوماً ملتبسة؛ نيكسون أرادها ورقة لعزل موسكو وتوسيع شقة الخلاف يومذاك مع بكين، وبعد الاعتراف الدبلوماسي الأمريكي ببكين، وتحديداً منذ بداية الثمانينيات، بدأ يغلب الطابع الاقتصادي على العلاقات مع الصين. وتنتهج الولايات المتحدة حيال تايوان سياسة خارجية تعرف باسم “الغموض الاستراتيجي” تقوم على الاعتراف بحكومة صينية واحدة، وهي سلطات بكين، والاستمرار بتقديم دعم حاسم لتايبيه، مع الامتناع عن توضيح ما إذا كانت ستدافع عنها عسكريا في حال غزتها الصين لإعادتها إلى سيادتها

منذ استلام قيادة الصين الزعيم الراحل دينغ شياوبينغ في عام 1978، وبدية تطبيق الإصلاحات الاقتصادية الكبرى من خلال “التحديثات الأربعة”،دخلت الصين في مرحلة الثورة الصناعية والتنموية الحديثة، لا سيما عقب انفتاحها الكبير على العولمة الرأسمالية الليبرالية، ودخولها منظمة التجارة العالمية مع بداية الألفية الجديدة، الذي ترافق مع نقل المصانع الأمريكية حينها أعمالها إلى الصين لرخص اليد العاملة، وهي نقلة يتحسر عليها فريق المحافظين القدامى مثل السياسي والكاتب المخضرم باتريك بيوكانن، بعدما أدّى تصدير منتجات هذه المصانع إلى السوق الأميركية إلى فائض تجاري هائل راوح بين 300 إلى 500 مليار دولار سنوياً. وقد ساهم هذا، إلى حد بعيد، في فورة التفوق الصيني السريع الذي أضحى المزاحم الأول للولايات المتحدة على المرتبة الاقتصادية الأولى في العالم.

وفق الرؤية الأمريكية، الصين باتت تهدد النظام الليبرالي العالمي الجديد، لا سيما بعد جائحة كوفيد 19،والأزمة الأوكرانية.فقد مثلت الحرب الروسية في أوكرانيا، نقطة تحول بارزة في السياسة الخارجية الصينية حيث باتت تطمح لـ”إعادة تشكيل النظام العالمي”، لتتحول مواقف بكين من “ضعيفة ومرتبكة” إلى “هجومية وخطرة” مع دخول الحرب شهرها السادس، وفقا لتقرير مجلة”فورين أفيرز” الأمريكية.

وفي نيسان/ أبريل، قال الرئيس الصيني شي جين بينغ، إن “التوافق الاستراتيجي بين الصين وروسيا مستمر”، وذلك رغم الإدانات الدولية.ولفتت المجلة الأمريكية إلى إعلان الصين هذا العام، عن إطلاق إطار عمل استراتيجي جديد تحت اسم “مبادرة الأمن العالمي”، في خطوة لتعزيز تصورها للنظام العالمي.

والاستراتيجية الصينية تشير إلى “محاولة بكين تقويض الثقة الدولية في الولايات المتحدة كمزود للاستقرار الإقليمي والعالمي وإنشاء منصة تمكن الصين من زيادة شراكاتها الخاصة”، بحسب المجلة.

وتعمل الصين على تعزيز شراكات بهدف “توسيع وتعميق العلاقات الخارجية الصينية”، لمواجهة أي عقوبات غربية محتملة، وفقا لـ”فورين أفيرز”.وأشارت الصحيفة إلى أن الصين تحاول “تعزيز وتوسيع إطار دول البريكس”، ككتلة بديلة تنافس مجموعة السبع ومجموعة العشرين. ومجموعة بريكس، تضم كلا من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا.في أيار/ مايو، عقد وزير الخارجية الصيني وانغ يي، اجتماعا لوزراء خارجية دول البريكس ضم تسعة ضيوف إضافيين، بما في ذلك السعودية والإمارات.

ودعا الرئيس الصيني إلى “توسيع المجموعة واقترح جهودا تعاونية جديدة بشأن الاقتصاد الرقمي والتجارة والاستثمار وسلسلة التوريد”.ودعا “شن جي” 13 من قادة العالم للمشاركة في حوار رفيع المستوى حول التنمية العالمية مع دول البريكس، بما في ذلك الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، ورئيس الوزراء الكمبودي هون سن. وعقب ذلك، تقدمت الأرجنتين وإيران رسميا للانضمام إلى مجموعة بريكس، كما أبدت مصر والسعودية وتركيا اهتماما بالانضمام للمجموعة. والأحد، لمح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، إلى إمكان انضمام الجزائر إلى دول المجموعة، وفقا لوكالة الأنباء الفرنسية.

وبحسب المجلة، تسعى بكين بالإضافة إلى التوسع في بريكس، إلى تحويل منظمة شنغهاي إلى التعاون التي تضم روسيا، إلى كتلة قوية يمكنها الاستفادة من العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية العميقة.

وقالت “فورين أفيرز” إن منظمة شنغهاي للتعاون مستعدة لأن تصبح “أكثر حزماً على المسرح العالمي”، تزامنا مع التوسع بالعضوية الرسمية لتشمل إيران في وقت لاحق من هذا العام، وربما بيلاروسيا في المستقبل.واقترحت طهران، في حزيران/ يونيو، أن تتبنى منظمة شنغهاي للتعاون عملة موحدة، معربة عن أملها في أن تصبح المجموعة “تحالفا للقوى العظمى غير الغربية”. وأشارت المجلة إلى إمكانية استفادة الصين من علاقتها الوثيقة مع باكستان والسعودية لبناء “قاعدة تحالفات بين دول العالم الإسلامي ومجلس التعاون الخليجي”.

من وجهة نظر السياسة الخارجية الأمريكية، الصين أصبحت تهدد النظام العالمي الليبرالي الجديد، الذي أقيم عقب انهيار النظام العالمي ثنائي القطبية ، لا سيما بسبب قوتها الاقتصادية الصاعدة .ووفق التعريف الكلاسيكي للمنظّر جون إيكنبيري، فإنه النظام العالمي الليبرالي الدولي يتألف من “نظام مفتوح تجسده مؤسسات مثل الأمم المتحدة ويقوم على قواعد مثل التعددية”. ومن المفارقات أن تعميم هذا النظام في بداية هذا القرن ساهم في بداية اضمحلاله الآن، ويرجع ذلك أساسًا إلى أن النواة الصلبة لهذا النظام المتمركزة بالأساس في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان لم تعد تهيمن على الاقتصاد العالمي.

ومنذ انضمام الصين وروسيا إلى منظمة التجارة العالمية بين سنتي 2001 و2012 على التوالي، وظهور سلسلة من التناقضات التي بدأت تقوض أسس النظام العالمي الليبرالي الجديد الأمريكي ،على غرار اتهامات باتباع مبدأ الكيل بمكيالين تجاه الغرب، والتدخلات في بلدان العالم الثالث دون موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، أدى كله إلى جعل بعض الدول تشكك في النظام الدولي الليبرالي أحادي القطبية ، ولكن المشكلة الأكبر تتمثل في عجز الدول التي ساهمت في إنشائه، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، عن الدفاع عنه.

خاتمة

هناك من يعتقد داخل الإدارة الأمريكية الحالية بأن النظام الدولي الذي ظهر منذ سنة 1945 لم يعد يخدم مصالحها الوطنية بشكل كافٍ. بل على العكس من ذلك تماما، أصبح يخدم مصالح قوى ناشئة مثل الصين التي لا تعترف بالمبادئ التي يقوم عليها النظام الدولي. ومن هنا نشأت المواجهة الحالية بين واشنطن وبكين، التي من المؤكد أنها ستساهم في تحديد مفهوم جديد للتجارة العالمية خلال القرن الحادي والعشرين.

يرى الخبراء أنَّ الصين لا تنوي استبدال النظام العالمي الليبرالي الجديد الحالي الذي استفادت منه بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، وإنما تسعى لتعزيز مكانتها على الصعيد العالمي بما يتماشى مع نموها الاقتصادي في السنوات الأخيرة. وقد انعكس ذلك في الخطاب الذي ألقاه الرئيس شي جين بينغ في سنة 2013 حول إنشاء “مجتمع المصير المشترك للبشرية”. ورغم غموض هذه العبارات إلا أنها لا توحي بالتشكيك في أسس النظام الحالي.

يعتمد المشروع الصيني على ثلاث أفكار: عالم متعدد الأقطاب مع تعدد مراكز القوة حيث تتوقف الولايات المتحدة عن لعب دور القوة المهيمنة، وعالم متعدد الأطراف حيث لا يوجد بلد يحدد جدول الأعمال العالمي وإنما يكون ذلك بالإجماع، وعالم تعددي يقبل أشكالًا مختلفة من الحكم وليس فقط الديمقراطية الليبرالية.

وستعمل الصين أولا على استعادة المكانة التي تعتقد أنه ما كان يجب أن تفقدها أبدًا، خاصة في القارة الآسيوية. وهذا ما يفسر الشعار الذي أطلقه شي بنفسه في سنة 2014 “آسيا للآسيويين”، لكن دون أن تحل الصين محل الولايات المتحدة الأمريكية في بقية العالم.

مجلة البلاد اللبنانية

زر الذهاب إلى الأعلى